الشيخ أحمد لبزور التازي

الشيخ أحمد لبزور التازي

سيرة ذاتية

ما جاء عن الشيخ أحمد التازي البزور  في كتاب النوبات الأندلسية المدونة بالكتابة الموسيقية – ج السادس : نوبة الإصبهان لمؤلفه ذ يونس الشامي                       
     ولد الشيخ أحمد البزور التازي سنة 1916 في مدينة فاس، ونشأ في بيت تصدح الموسيقى الأندلسية بين جنباته، فقد كان والده من كبار حفاظ هذه الموسيقى، في ممارستها، وإقامة الحفلات الساهرة لها … وفي هذا البيت تلقى الفتى أحمد دروسه الأولى في هذه الموسيقى، وذلك على يد والده المرحوم محمد البروز التازي، الذي اكتشف فيه منذ نعومة أظفاره مواهب موسيقية فذة تنبئ بأن تكون له في المستقبل مكانة فنية عالية، فقد كان ذلك الفتى يتمتع بأذن موسيقية مرهفة، وحس إيقاعي قوي، كما كان جميل الصوت، سريع الحفظ طموحا في تحصيله، يبحث دوما عما يثري به رصيده مما يحفظه من ” الصنائع الأندلسية ” ويسعى بإلحاح إلى تعلم العزف على كل آلة موسيقية تعجبه، الأمر الذي مكنه من أن يصبح ـ وهو بعد في مقتبل العمرـ من كبار حفاظ الموسيقى الأندلسية، ومن العازفين المرموقين على الطر والرباب والعود والكمان…
     وبعد وفاة والده تتلمذ الشاب أحمد عل يد ثلاثة من كبار شيوخ الموسيقى الأندلسية في النصف الأول من القرن الماضي، والذين تخرج على أيديهم معظم أعلام هذه الموسيقى في النصف الثاني من ذلك القرن، مثل مولاي أحمد الوكيلي، والحاج عبد الكريم الرايس، ومولاي علي المنصوري، والحاج محمد الخصاصي، والحاج محمد مصانو، والحاج ادريس بن جلون التويمي وغيرهم… وهؤلاء الشيوخ هم عبد القادر كريش الذي توفي في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، والشيخ محمد بن عبد السلام البريهي(1850-1944)، والفقيه محمد بن إدريس المطيري(1870-1946).
حياة كرست لخدمة التراث الأندلسي 
     لقد كرس الشيخ أحمد البروز التازي حياته لخدمة التراث الموسيقي الأندلسي وذلك عن طريق تلقينه لأبناء الجيل الصاعد، وتربيتهم على الاعتزاز به، وتشجيعهم على ممارسته، ثم عن طريق جمعه وتوثيقه توثيقا صوتيا يحميه من التحريف ويحفظه من الضياع.
     بدأ السيد أحمد عمله في حقل التعليم الموسيقي سنة 1939، عندما عين أستاذ للموسيقى الأندلسية في مدرسة دار السلاح الموجودة بقصر البطحاء في فاس، وذلك خلفا لأستاذه عبد القادر كريش، بعد ذلك عمل بمعهد دار عديل في نفس المدينة، وكان إلى جانب ذلك يعطي دروسا خاصة في تعليم هذه الموسيقى والعزف على الطر في المعهد البلدي للموسيقى بالدار البيضاء والمعهد الموسيقي الخاص التابع لجمعية هواة الموسيقى الأندلسية في نفس المدينة.
     ونظرا لما كانت تسببه له تنقلاته المتكررة بين مدينتي فاس والدار البيضاء من فراق لأهله وتعب ومصاريف وضياع للوقت فقد قرر في سنة 1965 أن يستقر مع أسرته في مدينة الدار البيضاء، وذلك بعد أن حصل على تعيينه كأستاذ للموسيقى الأندلسية في المعهد الموسيقي التابع لوزارة الثقافة بهذه المدينة.
     وقد تخرج على يد الشيخ أحمد كثير من الطلبة في الموسيقى الأندلسية، منهم من احترفوا تعليمها، ومنهم من مارسوها كعازفين أو منشدين في الأجواق الأندلسية، كما أن كثيرا من كبار هواة هذه الموسيقى ومن محترفيها المعروفين على الساحة الفنية كانوا يتصلون به، إما للتشاور معه في القضايا التي تتعلق بها أو الاستفادة من خبرته الواسعة فيها، أو أخذ “صنائع” عنه كان ينفرد بحفظها، أو زيادة إتقان عزفهم على إحدى الآلات الموسيقية التي كان معروفا بإجادته الضرب عليها. ومن هؤلاء الهواة المحترفين الذين كانوا يترددون على بيته بقصد إغناء رصيدهم من “الصنائع” الأندلسية: الحاج محمد بلمليح الذي خلف المرحوم الحاج إدريس بن جلون التويمي على رئاسة جمعية هواة الموسيقى الأندلسية في الدار البيضاء بعد وفاته سنة 1982، والمنشدان الذائعا الصيت الحاج محمد باجدوب والأستاذ عبد لمجيد الصويري، وعازف العود المرموق في جوق المعهد التطواني للموسيقى الأندلسية الأستاذ مختار مفرج، والأستاذ محمد أمين الأكرمى، الرئيس الحالي لجوق محمد العربي التمسماني…
أنشطته على رأس أجواق “الآلة “أو كعضو فيها
     أسس المرحوم أحمد التازي البزور أول جوق أندلسي له في فاس سنة 1939، وقد سماه “جوق الفقيه المطيري”، وفاء وإكراما لهذا الشيخ الذي أخذ عنه الكثير والذي كانت له مكانة خاصة في نفسه. وكان يتولى فيه مهام القيادة والعزف على آلة الرباب، أما باقي أعضاء الجوق فكانوا يتكونون من السادة: محمد المركاوي والتهامي السملالي (عازفين على الكمان) ومحمد التازي مصانو وعزيزي السقاط ومحمد بوزوبع (عازفين على العود) ومحمد التويزي (موقع على الطار) ومحمد بناني (موقع على الدربكة) وعمر الزويتن ومحمد الجروندي (منشدين).
     وفي سنة 1957 اتفق الأستاذ أحمد مع الحاج عبد الكريم الرايس على تشكيل جوق نموذجي للموسيقى الأندلسية في مدينة فاس، يضم عناصر من أجود “الآليين” فيها عازفين ومنشدين، فيكون قادرا على تقديم هذه الموسيقى لمستمعيها في أبهى صورة لها، مع الحفاظ على أصالتها وتقاليدها الموروثة، وهكذا قررا توحيد جوقيهما بدمج أفرادهما في جوق واحد، هو” جوق محمد البريهي” الذي كان تحت رئاسة الحاج عبد الكريم الرايس منذ 1944.
     وقد شارك الأستاذ أحمد التازي ضمن هذا الجوق في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الموسيقية التي نظمت داخل المغرب وخارجه. لكنه بعد انتقاله إلى الدار البيضاء سنة 1965 تخلى عن عضويته في هذا الجوق، وعندما تأسست “جمعية الانبعاث البيضاوية لهواة الموسيقى الأندلسية” سنة 1974 أسندت إليه رئاستها الفنية فشكل جوقا خاصا بها هاما في إنعاش الموسيقى في تلك المدينة.
     وعندما عزمت “جمعية هواة الموسيقى الأندلسية بالمغرب ” على توثيق التراث الموسيقي الأندلسي بالتسجيل الصوتي بمساعدة منظمة اليونسكو في أواخر السبعينات من القرن الماضي شكلت جوقا لهذه الغاية يتكون أعضاؤه من أبرز حفظة هذا التراث في المغرب وأبرعهم أداء له عزفا وغناء، وكان الشيخ أحمد التازي لبروز واحدا من هؤلاء الأعضاء، إلى جانب مولاي أحمد الوكيلي، ومحمد العربي التمسماني، والحاج عبد الكريم الرايس، ولإدريس بن جلون التويمي، ومحمد التازي، والغالي الشرايبي، ومحمد بوزوبع، ومحمد المركاوي… وقد سجل هذا الجوق ثماني نوبات أندلسية بمساعدة منظمة اليونسكو.

جهوده من أجل توثيق الموسيقى الأندلسية المغربية
     كان هاجس الخوف على مستقبل الموسيقى الأندلسية المغربية يشغل بال الشيخ أحمد التازي ويؤرقه، وكان ينزعج انزعاجا كبيرا مما يلاحظه من إعراض متزايد للجمهور عن سماع المراحل البطيئة من موازينها، الأمر الذي يهدد بالإهمال والنسيان ما تشتمل عليه هذه الموازين من “صنائع موسعة” وهي التي تشكل القسم الأكبر من هذا التراث الموسيقي الضخم، وكلن يقلقه كذلك ما تتعرض له هذه الموسيقى من تحولات متزايدة بسبب ما يقحم فيها من عناصر غريبة عنها تهدد على المدى البعيد بتشويه ملامحها الأصلية وطمس هويتها المغربية. 
   

    وسعيا منه إلى صيانة هذا التراث من التحريف والضياع فقد قام بعمل توثيقي فردي جبار، لم يسبقه إليه أحد في المغرب، وهو تسجيل مجموع هذا التراث الضخم، الذي يشتمل على ما يزيد ألف قطعة غنائية وآلية، على أشرطة ممغنطة، اعتمادا على صوته فقط المصاحب بعزفه على آلة العود. وقد تطلب منه إنجاز هذا العمل العظيم مجهودا ضخما ومضنيا استغرق أزيد من عقدين من الزمن واستنزف قسما كبيرا من موارده المالية، ذلك أن حرصه الشديد على توثيق مجموع هذا التراث دون  إغفال “الصنايع” و “التواشي” النادرة التي كان ينفرد بحفظها بعض شيوخ “الآلة” ممن عاصرهم، كان يدفعه –خاصة في أيام العطل المدرسية وعطلة الصيف – إلى شد الرحال إلى المدن التي يقيم فيها أولئك الشيوخ، فيلازمهم حتى يظفر بتلك “الصنائع” و “التواشي” فيعود بها إلى بيته يغمره –كما كان يقول – “شعور بالفرح والسعادة لا يضاهيه إلا شعور من عثر على كنز ثمين بعد بحث طويل” ومن المدن التي زارها لهذه الغاية : تطوان وشفشاون وآسفي ومراكش ووزان ومكناس… وقد أطلعني ذات مرة في بيته على العمل الذي أنجزه والذي كان شديد الخوف عليه نظرا لما كابده من عناء وتحمله من مصاريف من أجل إخراجه إلى حيز الوجود، وكان من خشيته عليه يحفظه في مكان آمن، بعيد عن الأنظار وعن متناول الأيدي، وذلك في صندوق خشبي كان قد صممه وصنعه بنفسه، وقسمه إلى إحدى عشر خانة متساوية، خصص كل واحدة منها لحفظ الأشرطة الممغنطة التي سجل عليها إحدى النوبات الأندلسية، بينما خصص خانتين أخريين صغيرتين للأشرطة التي سجل عليها ميزان قدام بواكر الماية وميزان القدام الجديد.
     وقد أسمعني المرحوم مقتطفات مما تضمنته بعض هذه الأشرطة، يمكن من خلالها إعطاء القارئ فكرة عن الطريقة التي اتبعها في إنجاز عمله التوثيقي هذا، فقد كان يستهل تسجيل كل نوبة بإخبار المستمع باسمها، ولا يقدم له أي مكون من مكوناتها إلا بعد أن يعلمه به بعبارات مقتضبة، مثل قوله، “وفيما يتعلق بتسجيله لصنائع النوبة فإنه كان يستهله بذكر عناوينها حسب تسلسلها في الميزان، ولا يؤديها كاملة نظرا لكثرتها وتكرار ألحان أغلب أبياتها، فكان يقتصر في ذلك على تسجيل ما هو ضروري فقط لمعرفة بنيتها اللحنية الأساسية، وذلك بإسقاط كل البيات التي تتكرر ألحانها، ففي الصنعة الخماسية مثلا –وهي الأكثر استعمالا في “موسيقى الآلة” – كان يكتفي بتسجيل كيفية أداء بيتين فقط هما، البيت الأول و “جوابه” والبيت الرابع الذي يشتمل على “الكرسي” و “جوابه” أو (  “التغطية” و “جوابها” )، كما يشتمل على ” الخروج” الذي يمهد السبيل للرجوع إلى اللحن الأصلي للصنعة. ولم يكن يسجل كيفية أداء البيت الخامس إلا عندما تكون مخالفة لما هي عليه في البيتين الأول والثاني، كأن يكون مثلا عدد الأدوار الإيقاعية التي يشتمل عليها لحن البيت الثالث أقل من تلك التي يشتمل عليها لحن كل من البيت الأول والثاني، كما أنه لم يكن يسجل كيفية أداء البيت الخامس إلا عندما تكون مخالفة لكيفية أداء البيت الأول، كما هو الحال مثلا في ” القفلات”، أي “الصنائع” التي تختم بها “موازين” الآلة. وهكذا فإن المستمع لتسجيلات هذه الصنائع لا يجد أية صعوبة في فهم كيفية أدائها من أولها إلى آخرها، حتى ولو لم تكن له دراية مسبقة بطريقة غنائها في الموسيقى الأندلسية.
     وموازاة مع توثيق التراث الموسيقي الأندلسي عن طريق التسجيل الصوتي كان المرحوم يجد أيضا من أجل توثيق نصوصه الشعرية عن طريق تدوينها وفق الترتيب الذي اتبعه في ذلك التسجيل والرواية الشعرية التي اعتمدها فيه، وذلك سعيا منه إلى تحقيق التكامل والانسجام بين العمليتين. لكن هذا العمل لم يكتب له مع الأسف أن ينشر حتى اليوم.
     وقد ظل هاجس توثيق الموسيقى الأندلسية يشغل باله حتى أواخر أيامه، فبعد تدوين  نوبة رصد الديل وفق روايته وأسلوبه في الأداء ونشرها عام 1400/1980م كانت النية معقودة على مواصلة هذا العمل معه حتى استكمال تدوين باقي النوبات، لكن الأجل المحتوم وافاه في 28 مارس 1983، وقد دونت عنه كذلك نوبة الإصبهان بعد وفاته، وذلك اعتمادا على تسجيلاته الصوتية التي أمدني بها مشكورا نجله الدكتور أنس البروز التازي، الذي ورث عن والده حبه لهذا التراث الموسيقي العريق، وغيرته عليه، ودعمه لكل الجهود والوسائل الرامية إلى صيانته ونشره.

الشيخ أحمد البروز التازي كما عرفته 
    عرفت الشيخ أحمد البروز التازي في الدار البيضاء في أواخر سنة 1978، وكنت من قبل قد سمعت عنه أخبارا كثيرة على لسان عدد من رجال “الآلة” وهواتها ممن كنت ألتقي بهم، خاصة في بيت الحاج ادريس بن جلون التويمي، رئيس جمعية هواة الموسيقى الأندلسية في ذلك الوقت، فكانوا لا يذكرون اسمه إلا مشفوعا بعبارات الثناء والتقدير والإعجاب، مجمعين على أنه كان فلتة من فلتات زمانه في موسيقى “الآلة “، حفظا وعزفا غناء، وأن الأقدار لم تنصفه، إذا لم تنله ما كان يستحقه من شهرة وجاه ومال، مرجعين سبب ذلك بالدرجة الأولى إلى صرف جل اهتمامه لجمع التراث الموسيقي الأندلسي، والعمل ليل نهار على توثيقه بعزفه وغنائه توثيقا صوتيا يحفظه للأجيال القادمة. وقد شوقني ما سمعته عنه إلى إلى التعرف عليه، وشجعني على الاتصال به الهدف المشترك الذي كنا نسعى معا إلى تحقيقه، دون أن يعرف أحدنا الآخر، وهو توثيق التراث الموسيقي الأندلسي، وهو عن طريق التسجيل الصوتي، وأنا عن طريق التدوين بالكتابة الموسيقية. وتولدت لدي قناعة بأن أنجاز هذا التدوين بالتعاون معه سيكون أسهل وأسرع، لأنه سوف لن يعتمد على الذاكرة فقط التي تخون أحيانا صاحبها، فيتوقف عن مواصلة الغناء إلى حين استحضار اللحن الذي سها عنه، والذي قد يستغرق استحضاره أحيانا وقتا طويلا، فوجد التسجيل الصوتي يسعف ذاكرة الشيخ عندما يتعلق الأمر ب “الصنائع” القليلة التداول. فوجد التسجيل الصوتي يسعف ذاكرة الشيخ عندما تخونه، بل وينوب عنه إذا غاب.
     وكان لقائي بالشيخ أحمد البروز التازي في أوائل شهر أكتوبر من سنة 1978 في بيته بمدينة الدار البيضاء رفقة رئيس “جمعية الانبعاث البيضاوية لهواة الموسيقى الأندلسية”، المرحوم عبد الله دحو الإدريسي، وذلك بعدما رحبت هذه الجمعية بفكرة تدوين التراث الموسيقي الأندلسي بالكتابة الموسيقية وفق رواية وأداء الشيخ أحمد، الذي كان وقتئذ رئيسها الفني ورئيس الجوق الأندلسي التابع لها.
     فتعرفنا على بعضنا، وتبين ليمن خلال حديثه أنه كان على علم بتوثيق التراث الموسيقي التونسي بالكتابة الموسيقية، وكذلك الموشحات الأندلسية الشرقية والتراث الموسيقي التركي، بشقيه الديني والدنيوي، وأبدى استغرابه من تشكيك بعض الموسيقيين العرب في قدرة هذا التدوين على توثيق الموسيقى العربية مع الحفاظ على أصالتها، متسائلا هل كان جميع من تصدوا لهذه المهمة على خطأ وجهل جدوى ما أفنوا حياتهم من أجله، وهل كان بوسع طلبة المعاهد الموسيقية المغربية الذين يحتك بهم يوميا سيتمكنون من عزف البشارف والسماعيات واللونغات التركية والعربية المقررة في مختلف المستويات الدراسية بتلك البراعة وذلك الإتقان لو كان تدوينها الموسيقي الأندلسية المغربية بنفس الطريقة، فاتفقنا على أن نبدأ ذلك بتدوين نوبة رصد الديل، وحددنا منهجية العمل التي سنسير عليها في إنجاز هذه المهمة، وتوالت بعد ذلك لقاءاتنا، ورفعت الكلفة بيننا، فتبينت لي ملامح شخصيته بوضوح أكبر وفهمت مزاجه فهما أعمق.
     كان الشيخ أحمد البروز التازي رحمه الله وسيما، بهي الطلعة، أنيق المظهر، متواضعا رقيق القلب، سريع التأثر مسالما، ميالا إلى الوحدة … وكانت له ذاكرة خارقة للعادة، مكنته من الإلمام إلماما واسعا بالموسيقى الأندلسية حتى غدا أحد المراجع الأساسية فيها خلال النصف الثاني من القرن الماضي، يقصده الباحثون في مجالها والراغبون في توسيع رصيدهم الغنائي فيها من كافة أرجاء البلاد. وكان إلى جانب ذلك جميل الصوت، يجيد التوقيع على الطر، والعزف على العود والكمان والرباب. ويعتبر تسجيله الصوتي للموسيقى الأندلسية – على الرغم من عدم نشره بسبب طابعه التوثيقي الصرف – أول تسجيل صوتي كامل تخضع له هذه الموسيقى خلال تاريخها الطويل، وثاني أهم عمل توثيقي فردي ينجز لصيانتها بعد كناش أبي عبد الله محمد بن الحسين الحايك التطواني الأندلسي الذي عني بجمع نصوصها الشعرية والذي ظهر إلى الوجود عام 1202 هـ (1778م) وهو عمل رائد سبق أنجازه بنحو عشرين عاما ظهور “أنطولوجية الآلة” التي أشرفت على تسجيلها وزارة الثقافة، وكل ذلك يكشف مدى بعد نظر هذا الرجل، ومقدار تعلقه بالتراث الموسيقي لوطنه، وحجم تضحياته من أجل الحفاظ عليه.
     وكثيرة هي شهادات الإشادة والتنويه التي سمعتها من أفواه من عرفتهم من رجال “الآلة” وهواتها في حق المرحوم الشيخ أحمد البروز التازي. وغالبا ما كانت هذه الشهادات مقرونة بعبارات يستشف المرء من خلالها وجود شعور عام لديهم بان القدر لم ينصف هذا الرجل في حياته، وأنه – نظرا لما كان يتوفر عليه من مؤهلات فنية عالية قلما يوجد نظير لها غيره من الفنانين الذين عاصروه – كان يستحق أن يكون له حضور أكبر على الساحة الفنية، وأن يتبوأ مكانة أرفع بين أقرانه من رجال “الآلة” … لكن التاريخ لا يخلو من حالات مماثلة لحالته، ليس في ميدان الفن فحسب، وإنما أيضا في سائر مجالات المعرفة البشرية، إذا لم يدرك بعض أعلامها ما يستحقونه من شهرة ومجد إلا بعد رحيلهم واعتراف خلفهم – بعد مدة قد تطول أحيانا – بفضلهم وبالقيمة الحقيقية لأعمالهم.
     ومن الشهادات ما صرح لي به المرحوم الشيخ محمد العربي التمسماني، مدير المعهد الموسيقي لمدينة تطوان ورئيس الجوق الأندلسي التابع لهذا المعهد، عندما زرته في أواخر سنة 1979 كي أسلمه مسودة نوبة رصد الديل، بعد إتمام الاطلاع عليها ووضع تقديم لها لتصديرها به. فبعد تصفحه باهتمام للمخطوط الذي سلمته إياه وعد بان يقوم بالازم بعد دراسته دراسة متأنية، ثم قال لي عن الشيخ أحمد:”… إني أعرف هذا الرجل معرفة جيدة منذ زمن بعيد، وقد شاركت معه في تقديم العديد من الحفلات الموسيقية الأندلسية داخل الوطن وخارجه، وأنا من المعجبين به وأكن له كل الاحترام والتقدير، فهو أحد الأقطاب البارزين لموسيقى “الآلة” في عصرنا هذا، ويملك من المؤهلات الفنية سواء على مستوى العزف أو الغناء ما من شأنه ان يضمن له الشهرة والجاه اللذين يطمح إليهما كل فنان … لكنه ليس من النوع الذي يحب أن تسلط عليه الأضواء، وهو لا يريد أن يقحم نفسه في أجواء التنافس المحتدم بين الموسيقيين منذ الأزل، وكل من عاشره يعلم أنه لا يفكر إلا في تحقيق هدف واحد كان يشكل دوما هاجسه الأكبر، ويضع تنفيذه على رأس جميع أولوياته، وهذا الهدف هو توثيق التراث الموسيقى الأندلسي بكل الوسائل الممكنة للحفاظ عليه من التحريف والضياع، وقد كرس حياته لتحقيقه، فبعدما تمكن بمجهوده الفردي وماله الخاص من توثيق هذا التراث بصوته وعزفه على الأشرطة الممغنطة، ها هو اليوم يتطلع بحماس متجدد وعزيمة لا تفل إلى توثيقه مرة أخرى عن طريق التدوين بالكتابة الموسيقية، وحسب معرفتي بعقليته ومزاجه فلا شيء آخر سيكون بالنسبة إليه أهم من هذا التراث كان دائما وسيظل هو غاية مناه في حياته الفنية … أرجو لكما كامل التوفيق في إنجاز هذا المشروع الذي أثبتت لي تجاربي المتواضعة في تدوين بعض الصنائع الأندلسية بتعاون مع عدد من أساتذة المعهد الموسيقي المغاربة والإسبان أنه مشروع ضخم، يتطلب إنجازه كثيرا من الجهد والصبر والوقت ونكران الذات…”  
     رحم الله الشيخ أحمد البروز التازي، وأسكنه فسيح جنانهن وجزاه الله خيرا عما قدمه من خدمات جليلة للموسيقى الأندلسية المغربية، وهي خدمات ستخلد اسمه في التاريخ وستظل الأجيال القادمة تذكرها له بعد بمداد العز والفخر والامتنان.

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قد تحب قراءة